فصل: تفسير الآيات رقم (8 - 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 35‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا‏}‏ ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا‏}‏ أي‏:‏ إذا أصابه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا‏}‏ أي‏:‏ إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره، ومنع حق الله فيها‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا موسى بن عُلَيّ بنُ رَباح‏:‏ سمعت أبي يحدث عن عبد العزيز بن مروان بن الحكم قال‏:‏ سمعت أبا هُرَيرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏شر ما في رجل شُحٌ هالع، وجبن خالع‏"‏‏.‏

ورواه أبو داود عن عبد الله بن الجراح، عن أبي عبد الرحمن المقري، به وليس لعبد العزيز عنده سواه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلا الْمُصَلِّينَ‏}‏ أي‏:‏ الإنسان من حيث هو متصف بصفات الذم إلا من عصمه الله ووفقه، وهداه إلى الخير ويسر له أسبابه، وهم المصلون ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ قيل‏:‏ معناه يحافظون على أوقاتهم وواجباتهم‏.‏ قاله ابن مسعود، ومسروق، وإبراهيم النخعي‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالدوام هاهنا السكون والخشوع، كقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏ قاله عتبة بن عامر‏.‏ ومنه الماء الدائم، أي‏:‏ الساكن الراكد‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بذلك الذين إذا عملوا عملا داوموا عليه وأثبتوه، كما جاء في الصحيح عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلّ‏"‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏"‏ما داوم عليه صاحبه‏"‏، قالت‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا داوم عليه‏.‏ وفي لفظ‏:‏ أثبته‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ‏}‏ ذُكر لنا أن دانيال، عليه السلام، نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو قوم عاد ما أرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة‏.‏ فعليكم بالصلاة فإنها خُلُق للمؤمنين حسن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏}‏ أي‏:‏ في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات‏.‏ وقد تقدم الكلام على ذلك في ‏"‏سورة الذاريات‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ‏}‏ أي‏:‏ يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ خائفون وجلون، ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يأمنه أحد ممن عقل عن الله أمره إلا بأمان من الله تبارك وتعالى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ‏}‏ أي‏:‏ يكفونها عن الحرام ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله ‏[‏فيه‏]‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من الإماء، ‏{‏فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏ وقد تقدم تفسير ذلك في أول سورة ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ بما أغنى عنى إعادته هاهنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا‏.‏ وهذه صفات المؤمنين، وضدها صفات المنافقين، كما ورد في الحديث الصحيح‏:‏ ‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏‏.‏ وفي رواية‏:‏ ‏"‏إذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فجر‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ محافظون عليها لا يزيدون فيها، ولا ينقصون منها، ولا يكتمونها، ‏{‏وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 283‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ أي‏:‏ على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، فافتتح الكلام بذكر الصلاة واختتمه بذكرها، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها، كما تقدم في أول سورة‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏؛ سواء لهذا قال هناك‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 10، 11‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مكرمون بأنواع الملاذ والمسار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36 – 44‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏}‏

يقول تعالى منكرًا على الكفار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم مشاهدون له، ولما أرسله الله به من الهدى وما أيده الله به من المعجزات الباهرات، ثم هم مع هذا كله فارون منه، متفرقون عنه، شاردون يمينًا وشمالا فِرَقًا فِرَقًا، وشِيعًا شِيعًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49، 51‏]‏ الآية وهذه مثلها؛ فإنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ فما لهؤلاء الكفار الذين عندك يا محمد ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ أي مسرعين نافرين منك، كما قال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ منطلقين، ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ‏}‏ واحدها عزَةٌ، أي‏:‏ متفرقين‏.‏ وهو حال من مهطعين، أي‏:‏ في حال تفرقهم واختلافهم، كما قال الإمام أحمد في أهل الأهواء‏:‏ فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ‏}‏ قال‏:‏ قبلك ينظرون، ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ‏}‏ قال‏:‏ العزين‏:‏ العُصَب من الناس، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن بشار‏.‏ حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ‏}‏ متفرقين، يأخذون يمينًا وشمالا يقولون‏:‏ ما قال هذا الرجل‏؟‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏مُهْطِعِينَ‏}‏ عامدين، ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ فِرَقًا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الثوري، وشعبة، وعيسى بن يونس وعَبْثَر بن القاسم ومحمد بن فضيل، ووَكِيع، ويحيى القطان، وأبو معاوية، كلهم عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم وهم حلق، فقال‏:‏ ‏"‏ما لي أراكم عزين‏؟‏‏"‏ رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، من حديث الأعمش، به

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا مُؤَمَّل، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة‏:‏ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق حِلق، فقال‏:‏ ‏"‏ما لي أراكم عزين‏؟‏‏"‏‏.‏ وهذا إسناد جيد، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ أيطمع هؤلاء -والحالة هذه- من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ونفارهم عن الحق -أن يدخلوا جنات النعيم‏؟‏ كلا بل مأواهم الجحيم‏.‏

ثم قال تعالى مقررًا لوقوع المعاد والعذاب بهم الذي أنكروا كونه واستبعدوا وجوده، مستدلا عليهم بالبداءة التي الإعادة أهون منها وهم معترفون بها، فقال ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ من المني الضعيف، كما قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 5 -10‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ‏}‏ أي‏:‏ الذي خلق السموات والأرض، وجعل مشرقا ومغربا، وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ ليس الأمر كما يزعمون أن لا معاد ولا حساب، ولا بعث ولا نشور، بل كل ذلك واقع وكائن لا محالة‏.‏ ولهذا أتى بـ ‏"‏لا‏"‏ في ابتداء القسم ليدل على أن المقسم عليه نفي، وهو مضمون الكلام، وهو الرد على زعمهم الفاسد في نفي يوم القيامة، وقد شاهدوا من عظيم قدرة الله تعالى ما هو أبلغ من إقامة القيامة، وهو خلق السموات والأرض، وتسخير ما فيهما من المخلوقات من الحيوانات والجمادات، وسائر صنوف الموجودات؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 57‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال تعالى في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81، 82‏]‏‏.‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه، فإن قدرته صالحة لذلك، ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ‏}‏ أي‏:‏ بعاجزين‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 3، 4‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 6، 61‏]‏‏.‏

واختار ابن جرير ‏{‏عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أمة تطيعنا ولا تعصينا وجعلها، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ والمعنى الأول أظهر لدلالة

الآيات الأخر عليه، والله أعلم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد ‏{‏يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا‏}‏ أي‏:‏ دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم، ‏{‏حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقومون من القبور إذا دعاهم الرب، تبارك وتعالى، لموقف الحساب، ينهضون سراعًا كأنهم إلى نصب يوفضون‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك‏:‏ إلى عَلَم يسعون‏.‏ وقال أبو العالية، ويحيى بن أبي كثير‏:‏ إلى غاية يسعون إليها‏.‏

وقد قرأ الجمهور‏:‏ ‏"‏نَصْب‏"‏ بفتح النون وإسكان الصاد، وهو مصدر بمعنى المنصوب‏.‏ وقرأ الحسن البصري‏:‏ ‏{‏نُصُبٍ‏}‏ بضم النون والصاد، وهو الصنم، أي‏:‏ كأنهم في إسراعهم إلى الموقف كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه يوفضون، يبتدرون، أيهم يستلمه أول‏.‏ وهذا مروي عن مجاهد، ويحيى بن أبي كثير، ومسلم البَطين وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وأبي صالح، وعاصم بن بَهْدَلة، وابن زيد، وغيرهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ خاضعة ‏{‏تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة، ‏{‏ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ‏}‏

آخر تفسير سورة ‏"‏سأل سائل‏"‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير سورة نوح

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ بين النذارة، ظاهر الأمر واضحه‏.‏

‏{‏أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ‏}‏ أي‏:‏ اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم به وأنهاكم عنه‏.‏

‏{‏يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا فعلتم ما آمرتكم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم، غفر الله لكم ذنوبكم‏.‏ و‏"‏ من ‏"‏ هاهنا قيل‏:‏ إنها زائدة‏.‏ ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل‏.‏ ومنه قول بعض العرب‏:‏ ‏"‏قد كان من مطر‏"‏‏.‏ وقيل‏:‏ إنها بمعنى ‏"‏عن‏"‏ تقديره‏:‏ يصفح لكم عن ذنوبكم واختاره ابن جرير وقيل‏:‏ إنها للتبعيض، أي يغفر لكم الذنوب العظام التي وعدكم على ارتكابكم إياها الانتقام‏.‏

‏{‏وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ أي‏:‏ يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب الذي إن لم تنزجروا عما نهاكم عنه، أوقعه بكم‏.‏

وقد يستدل بهذه الآية من يقول‏:‏ إن الطاعة والبر وصلة الرحم، يزاد بها في العمر حقيقة؛ كما ورد به الحديث‏:‏ ‏"‏صلة الرحم تزيد في العمر‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة، فإنه إذا أمر ‏[‏الله‏]‏ تعالى بكون ذلك لا يرد ولا يمانع، فإنه العظيم الذي قهر كل شيء، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 20‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا‏}‏

يخبر تعالى عن عبده ورسوله نوح، عليه السلام، أنه اشتكى إلى ربه، عز وجل، ما لقي من قومه، وما صبر عليهم في تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلا خمسين عاما، وما بين لقومه ووضح لهم ودعاهم إلى الرشد والسبيل الأقوم، فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا‏}‏ أي‏:‏ لم أترك دعاءهم في ليل ولا نهار، امتثالا لأمرك وابتغاء لطاعتك، ‏{‏فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا‏}‏ أي‏:‏ كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فَروا منه وحَادُوا عنه،‏.‏ ‏{‏وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه‏.‏ كما أخبر تعالى عن كفار قريش‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏26‏]‏‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ‏}‏ قال ابن جريح، عن ابن عباس‏:‏ تنكروا له لئلا يعرفهم‏.‏ وقال سعيد بن جبير، والسدي‏:‏ غطوا رءوسهم لئلا يسمعوا ما يقول‏.‏

‏{‏وَأَصَرُّوا‏}‏ أي‏:‏ استمروا على ما هم فيه من الشرك والكفر العظيم الفظيع، ‏{‏وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا‏}‏ أي‏:‏ واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا‏}‏ أي‏:‏ جهرة بين الناس‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ كلاما ظاهرا بصوت عال، ‏{‏وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا‏}‏ أي‏:‏ فيما بيني وبينهم، عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم‏.‏

‏{‏فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا‏}‏ أي‏:‏ ارجعوا إليه وارجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب، فإنه من تاب إليه تاب عليه، ولو كانت ذنوبه مهما كانت في الكفر والشرك‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا‏}‏ أي‏:‏ متواصلة الأمطار‏.‏ ولهذا تستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية‏.‏ وهكذا روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب‏:‏ أنه صعد المنبر ليستسقي، فلم يزد على الاستغفار، وقرأ الآيات في الاستغفار‏.‏ ومنها هذه الآية ‏{‏فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا‏}‏ ثم قال‏:‏ لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء التي ستنزل بها المطر‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ يتبع بعضه بعضا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا‏}‏ أي‏:‏ إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وَأَدَرَّ لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي‏:‏ أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها‏.‏

هذا مقام الدعوة بالترغيب‏.‏ ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا‏}‏ أي‏:‏ عظمة قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقال ابن عباس‏:‏ لا تعظمون الله حق عظمته، أي‏:‏ لا تخافون من بأسه ونقمته‏.‏

‏{‏وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا‏}‏ قيل‏:‏ معناه من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة‏.‏ قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ويحيى بن رافع، والسدي، وابن زيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط‏؟‏ أو هي من الأمور المدركة بالحس، مما علم من التسيير والكسوفات، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا، فأدناها القمر في السماء الدنيا وهو يكسف ما فوقه، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشترى في السادسة، وزحل في السابعة‏.‏ وأما بقية الكواكب -وهي الثوابت- ففي فَلَك ثامن يسمونه فَلَكَ الثوابت‏.‏ والمتشرعون منهم يقولون‏:‏ هو الكرسي، والفلك التاسع، وهو الأطلس‏.‏ والأثير عندهم الذي حركته على خلاف حركة سائر الأفلاك، وذلك أن حركته مبدأ الحركات، وهي من المغرب إلى المشرق؛ وسائر الأفلاك عكسه من المشرق إلى المغرب، ومعها يدور سائر الكواكب تبعا، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق‏.‏ وكل يقطع فلكه بحسبه، فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرة، والشمس في كل سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، وذلك بحسب اتساع أفلاكها وإن كانت حركة الجمع في السرعة متناسبة‏.‏ هذا ملخص ما يقولونه في هذا المقام، على اختلاف بينهم في مواضع كثيرة، لسنا بصدد بيانها، وإنما المقصود أن الله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا‏}‏ أي‏:‏ فاوت بينهما في الاستنارة فجعل كلا منهما أنموذجا على حدة، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها، وقدر القمر منازل وبروجا، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى ثم يشرع في النقص حتى يستسر، ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏5‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا‏}‏ هذا اسم مصدر، والإتيان به هاهنا أحسن، ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ إذا متم ‏{‏وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا‏}‏ أي‏:‏ بسطها ومهدها وقررها وثَبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات‏.‏

‏{‏لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا‏}‏ أي‏:‏ خلقها لكم لتستقروا عليها وتسلكوا فيها أين شئتم، من نواحيها وأرجائها وأقطارها، وكل هذا مما ينبههم به نوح، عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السموات والأرض، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية، فهو الخالق الرزاق، جعل السماء بناء، والأرض مهادا، وأوسع على خلقه من رزقه، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد؛ لأنه لا نظير له ولا عَديل له، ولا ند ولا كفء، ولا صاحبة ولا ولد، ولا وزير ولا مشير، بل هو العلي الكبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 24‏]‏

‏{‏قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا‏}‏

يقول تعالى مخبرا عن نوح، عليه السلام، أنه أنهى إليه، وهو العليم الذي لا يعزب عنه شيء، أنه مع البيان المتقدم ذكره، والدعوة المتنوعة المتشملة على الترغيب تارة والترهيب أخرى‏:‏ أنهم عصوه وكذبوه وخالفوه، واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر الله، ومتع بمال وأولاد، وهي في نفس الأمر استدراج وإنظار لا إكرام؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا‏}‏ قُرئ ‏{‏وَوُلْدُهُ‏}‏ بالضم وبالفتح، وكلاهما متقارب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ‏{‏كُبَّارًا‏}‏ أي عظيمًا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ‏{‏كُبَّارًا‏}‏ أي‏:‏ كبيرا‏.‏ والعرب تقول‏:‏ أمر عجيب وعُجَاب وعُجَّاب‏.‏ ورجل حُسَان‏.‏ وحُسَّان‏:‏ وجُمَال وجُمَّال، بالتخفيف والتشديد، بمعنى واحد‏.‏

والمعنى في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا‏}‏ أي‏:‏ باتباعهم في تسويلهم لهم بأنهم على الحق والهدى، كما يقولون لهم يوم القيامة‏:‏ ‏{‏بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏33‏]‏ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا إبراهيم، حدثنا هشام، عن ابن جريج، وقال عطاء، عن ابن عباس‏:‏ صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد‏:‏ أما وَد‏:‏ فكانت لكلب بدومة الجندل؛ وأما

سواع‏:‏ فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرُف عند سبأ، أما يُعوقُ‏:‏ فكانت لهَمْدان، وأما نسر‏:‏ فكانت لحمير لآل ذي كَلاع، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح، عليه السلام، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم‏.‏ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتَنَسَّخَ العلم عُبِدت‏.‏ وكذا رُوي عن عكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن إسحاق، نحو هذا‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ هذه أصنام كانت تعبد في زمن نوح‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس ‏{‏‏[‏يَغُوثَ‏]‏ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ قال‏:‏ كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم‏:‏ لو صَوَرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم‏.‏ فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال‏:‏ إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم‏.‏

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شيث، عليه السلام، من طريق إسحاق بن بشر قال‏:‏ وأخبرني جُويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ولد لآدم عليه السلام، أربعون ولدا، عشرون غلاما وعشرون جارية، فكان ممن عاش منهم‏:‏ هابيل، وقابيل، وصالح، وعبد الرحمن -والذي كان سماه عبد الحارث- ووَدّ، وكان وَدّ يقال له ‏"‏شيث‏"‏ ويقال له‏:‏ ‏"‏هبة الله‏"‏ وكان إخوته قد سَوّدوه، وولد له سَوَاع ويغوث ويعوق ونسر‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو عُمَر الدّوريُّ، حدثني أبو إسماعيل المؤدّب، عن عبد الله بن مسلم بن هُرمز عن أبي حزْرَة، عن عروة بن الزبير قال‏:‏ اشتكى آدم، عليه السلام، وعنده بنوه‏:‏ ود، ويغوث، ‏[‏ويعوق‏]‏ وسواع، ونسر -قال وكان وَدّ أكبَرهم وأبرّهم به‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا يعقوب، عن أبي المطهر قال‏:‏ ذكروا عند أبي جعفر -وهو قائم يصلي- يزيد بن المهلب، قال‏:‏ فلما انفتل من صلاته قال‏:‏ ذكرتم يزيدَ بن المهلب، أما إنه قتل في أول أرض عُبد فيها غيرُ الله‏.‏ قال‏:‏ ثم ذكر ودًا -قال‏:‏ وكان وَدٌّ رجلا مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جَزَعهم عليه، تشبه في صورة إنسان، ثم قال‏:‏ إني أرى جزعكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكونَ في ناديكم فتذكرونه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فصُوِّر لهم مثله، قال‏:‏ ووضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه‏.‏ فلما رأى ما بهم من ذكره قال‏:‏ هل لكم أن أجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله، فيكون له في بيته فتذكرونه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال‏:‏ وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به، قال وتناسلوا ودَرَس أمر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون الله أولاد أولادهم، فكان أول ما عبد من غير الله‏:‏ الصنم الذي سموه وَدّا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا‏}‏ يعني‏:‏الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقا كثيرًا، فإنه استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم‏.‏ وقد قال الخليل، عليه السلام، في دعائه‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 35، 36‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا‏}‏ دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم، كما دعا موسى على فرعون ومثله في قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 28‏]‏

‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏مِمَّا خَطايَاهُمْ‏}‏ وقرئ‏:‏ ‏{‏خَطِيئَاتِهِمْ‏}‏ ‏{‏أُغْرِقُوا‏}‏ أي‏:‏ من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم ‏{‏أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا‏}‏ أي‏:‏ نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار، ‏{‏فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا‏}‏ أي‏:‏ لم يكن لهم معين ولا مُغيث ولا مُجير ينقذهم من عذاب الله كقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ أي‏:‏ لا تترك على ‏[‏وجه‏]‏ الأرض منهم أحدًا ولا تُومُريَّا وهذه من صيغ تأكيد النفي‏.‏

قال الضحاك‏:‏ ‏{‏دَيَّارًا‏}‏ واحدا‏.‏ وقال السُّدِّي‏:‏ الديار‏:‏ الذي يسكن الدار‏.‏

فاستجاب الله له، فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه، وقال‏:‏ ‏{‏سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقال ابن أبي حاتم‏:‏ قرئ على يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني شَبيب بن سعد، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو رحم الله من قوم نوح أحدا، لرحم امرأة، لما رأت الماء حملت ولدها ثم صعدت الجبل، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها، فلما بلغ الماء رأسها رفعت ولدها بيدها‏.‏ فلو رحم الله منهم أحدا لرحم هذه المرأة‏"‏‏.‏

هذا حديث غريب، ورجاله ثقات‏.‏ ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا مع نوح، عليه السلام، وهم الذين أمره الله بحملهم معه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ‏}‏ أي‏:‏ إنك إن أبقيت منهم أحدًا أضلوا عبادك، أي‏:‏ الذين تخلقهم بعدهم ‏{‏وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا‏}‏ أي‏:‏ فاجرًا في الأعمال كافر القلب، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا‏}‏ قال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ مسجدي، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها، وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن، وقد قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن، حدثنا حَيْوَة، أنبأنا سالم بن غيلان‏:‏ أن الوليد بن قيس التُّجِيبِيّ أخبره‏:‏ أنه سمع أبا سعيد الخدري -أو‏:‏ عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد‏:‏- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا تصحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي‏"‏‏.‏

ورواه أبو داود والترمذي، من حديث عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، به ثم قال الترمذي‏:‏ إنما نعرفه من هذا الوجه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يَعُم الأحياءَ منهم والأموات؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء، اقتداء بنوح، عليه السلام، وبما جاء في الآثار، والأدعية ‏[‏المشهورة‏]‏ المشروعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا‏}‏ قال السدي‏:‏ إلا هلاكا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إلا خسارا، أي‏:‏ في الدنيا والآخرة‏.‏

آخر تفسير سورة ‏"‏نوح‏"‏ ‏[‏عليه السلام ولله الحمد والمنة‏]‏‏.‏

تفسير سورة الجن

وهي مكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 7‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا‏}‏

يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر قومه‏:‏ أن الجن استمعوا القرآن فآمنوا به وصدقوه وانقادوا له، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ‏}‏ أي‏:‏ إلى السداد والنجاح، ‏{‏فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ وهذا المقام شبيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏ وقد قدمنا الأحاديث الواردة في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ أي‏:‏ فعله وأمره وقدرته‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ جد الله‏:‏ آلاؤه وقدرته ونعمته على خلقه‏.‏

وروي عن مجاهد وعكرمة‏:‏ جلال ربنا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تعالى جلاله وعظمته وأمره‏.‏ وقال السدي‏:‏ تعالى أمر ربنا‏.‏ وعن أبي الدرداء، ومجاهد أيضا وابن جريج‏:‏ تعالى ذكره‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ أي‏:‏ تعالى ربنا‏.‏

فأما ما رواه ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ الجد‏:‏ أب‏.‏ ولو علمت الجن أن في الإنس جدا ما قالوا‏:‏ تعالى جَدّ ربنا‏.‏

فهذا إسناد جيد، ولكن لست أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعله قد سقط شيء، والله أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا‏}‏ أي‏:‏ تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد، أي‏:‏ قالت

الجن‏:‏ تنزه الرب تعالى جلاله وعظمته، حين أسلموا وآمنوا بالقرآن، عن اتخاذ الصاحبة والولد‏.‏

ثم قالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا‏}‏ قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والسدي‏:‏ ‏{‏سَفِيهُنَا‏}‏ يعنون‏:‏ إبليس، ‏{‏شَطَطًا‏}‏ قال السُّدِّي، عن أبي مالك‏:‏ ‏{‏شَطَطًا‏}‏ أي‏:‏ جورا‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ظلما كبيرا‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد بقولهم‏:‏ ‏{‏سَفِيهُنَا‏}‏ اسم جنس لكل من زعم أن لله صاحبة أو ولدا‏.‏ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا‏}‏ أي‏:‏ قبل إسلامه ‏{‏عَلَى اللَّهِ شَطَطًا‏}‏ أي‏:‏ باطلا وزورا؛ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ أي‏:‏ ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب على الله في نسبة الصاحبة والولد إليه‏.‏ فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به، علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ أي‏:‏ كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، إي‏:‏ إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كان عادة العرب في جاهليتها‏.‏ يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم، ‏{‏فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ أي‏:‏ خوفا وإرهابا وذعرا، حتى تبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم، كما قال قتادة‏:‏ ‏{‏فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ أي‏:‏ إثما، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة‏.‏

وقال الثوري، عن منصور عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ أي‏:‏ ازدادت الجن عليهم جرأة‏.‏

وقال السدي‏:‏ كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضَرّ أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال‏:‏ فإذا عاذ بهم من دون الله، رَهقَتهم الجن الأذى عند ذلك‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد القطان، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، حدثنا الزبير بن الخرِّيت، عن عكرمة قال‏:‏ كان الجن يَفْرَقُون من الإنس كما يفرَق الإنس منهم أو أشد، وكان الإنس إذا نزلوا واديا هرب الجن، فيقول سيد القوم‏:‏ نعوذ بسيد أهل هذا الوادي‏.‏

فقال الجن‏:‏ نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم‏.‏ فدنوا من الإنس فأصابوهم بالخبل والجنون، فذلك قول الله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏

وقال أبو العالية، والربيع، وزيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏رَهَقًا‏}‏ أي‏:‏ خوفا‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ أي‏:‏ إثما‏.‏ وكذا قال قتادة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ زاد الكفار طغيانا‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا فروة بن المغراء الكندي، حدثنا القاسم بن مالك -يعني المزني- عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبيه، عن كَردم بن أبي السائب الأنصاري قال‏:‏ خرجت مع أبي من المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم‏.‏ فلما انتصف الليل جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال‏:‏ يا عامر الوادي، جارك‏.‏ فنادى مناد لا نراه، يقول‏:‏ يا سرحان، أرسله‏.‏ فأتى الحملَ يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة‏.‏ وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏

ثم قال‏:‏ ورُوي عن عبيد بن عمير، ومجاهد، وأبي العالية، والحسن، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النَّخَعي، نحوه‏.‏

وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل -وهو ولد الشاة- وكان جنّيا حتى يُرهب الإنسي ويخاف منه، ثم رَدَّه عليه لما استجار به، ليضله ويهينه، ويخرجه عن دينه، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا‏}‏ أي‏:‏ لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا‏.‏ قاله الكلبي، وابن جرير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 10‏]‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏

يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن، وكان من حفظه له أن السماء مُلئَت حرسا شديدًا، وحفظت من سائر أرجائها، وطردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلا يسترقوا شيئا من القرآن‏.‏ فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق‏.‏ وهذا من لطف الله بخلقه ورحمته بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال الجن‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا‏}‏ أي‏:‏ من يروم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه، ‏{‏وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ أي‏:‏ ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض، أم أراد بهم ربهم رشدا‏؟‏ وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل‏.‏ وقد ورد في الصحيح‏:‏ ‏"‏والشر ليس إليك‏"‏‏.‏ وقد كانت الكواكب يُرمَى بها قبل ذلك، ولكن ليس بكثير بل في الأحيان بعد الأحيان، كما في حديث ابن عباس بينما نحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رمي بنجم فاستنار، فقال‏:‏ ‏"‏ما كنتم تقولون في هذا‏؟‏ فقلنا‏:‏ كنا نقول‏:‏ يولد عظيم، يموت عظيم، فقال‏:‏ ‏"‏ليس كذلك، ولكن الله إذا قضى الأمر في السماء‏"‏، وذكر تمام الحديث، وقد أوردناه في سورة ‏"‏سبأ‏"‏ بتمامه وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء، فآمن من آمن منهم، وتمرد في طغيانه من بقي، كما تقدم حديث ابن عباس في ذلك، عند قوله في سورة ‏"‏الأحقاف‏"‏‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ الآية 29‏.‏ ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له وارتاعوا لذلك، وظنوا أن ذلك لخراب العالم -كما قال السدي‏:‏ لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، فكانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه وسلم قد اتخذت المقاعد في السماء الدنيا، يستمعون ما يحدث في السماء من أمر‏.‏ فلما بعث الله محمدًا نبيا، رُجموا ليلة من الليالي، ففزع لذلك أهل الطائف، فقالوا‏:‏ هلك أهل السماء، لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب‏.‏ فجعلوا يعتقون أرقاءهم ويُسَيِّبون مواشيهم، فقال لهم عبد يا ليل بن عمرو بن عمير‏:‏ ويحكم يا معشر أهل الطائف‏.‏ أمسكوا عن أموالكم، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، إنما هذا من أجل ابن أبي كبشة -يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم- وإن أنتم لم تروها فقد هلك أهل السماء‏.‏ فنظروا فرأوها، فكفوا عن أموالهم‏.‏ وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس فحدثوه بالذي كان من أمرهم، فقال‏:‏ ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها‏.‏ فأتوه فَشَم فقال‏:‏ صاحبكم بمكة‏.‏ فبعث سبعة نفر من جن نصيبين، فقدموا مكة فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا‏.‏ فأنزل الله تعالى أمرهم على نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا هذا الفصل مستقصى في أول البعث من‏(‏كتاب السيرة‏)‏‏}‏ المطول، والله أعلم، ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 17‏]‏

‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا‏}‏

يقول مخبرا عن الجن‏:‏ أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ غير ذلك، ‏{‏كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ أي‏:‏ طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد وغير واحد‏:‏ ‏{‏كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ أي‏:‏ منا المؤمن ومنا الكافر‏.‏

وقال أحمد بن سليمان النجاد في أماليه، حدثنا أسلم بن سهل بحشل، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان -هو أبو الشعثاء الحضرمي، شيخ مسلم- حدثنا أبو معاوية قال‏:‏ سمعتُ الأعمش يقول‏:‏ تروح إلينا جني، فقلت له‏:‏ ما أحب الطعام إليكم‏؟‏ فقال الأرز‏.‏ قال‏:‏ فأتيناهم به، فجعلت أرى اللقم ترفع ولا أرى أحدا‏.‏ فقلت‏:‏ فيكم من هذه الأهواء التي فينا‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قلت‏:‏ فما الرافضة فيكم ‏؟‏ قال شرنا‏.‏ عرضت هذا الإسناد على شيخنا الحافظ أبي الحجاج المِزِّي فقال‏:‏ هذا إسناد صحيح إلى الأعمش‏.‏

وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال سمعتُ بعض الجَنّ وأنا في منزل لي بالليل ينشد‏:‏

قُلوبٌ بَرَاها الحبّ حَتى تعلَّقت *** مَذَاهبُها في كُلّ غَرب وشَارق

تَهيم بحب الله، واللهُ رَبُّها *** مُعَلَّقةٌ بالله دُونَ الخَلائق

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا‏}‏ أي‏:‏ نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض، ولو أمعنا في الهرب، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا‏.‏

‏{‏وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ‏}‏ يفتخرون بذلك، وهو مفخر لهم، وشرف رفيع وصفة حسنة‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا‏}‏ قال ابن عباس، وقتادة، وغيرهما‏:‏ فلا يخاف أن يُنقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 112‏]‏

‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ‏}‏ أي‏:‏ منا المسلم ومنا القاسط، وهو‏:‏ الجائر عن الحق الناكب عنه، بخلاف المقسط فإنه العادل، ‏{‏فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا‏}‏ أي‏:‏ طلبوا لأنفسهم النجاة،

‏{‏وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ أي‏:‏ وقودًا تسعر بهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها، ‏{‏لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا‏}‏ أي‏:‏ كثيرًا‏.‏ والمراد بذلك سَعَة الرزق‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 66‏]‏ وكقوله‏:‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 96‏]‏ وعلى هذا يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ لنختبرهم، كما قال مالك، عن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ‏}‏ لنبتليهم، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية‏؟‏‏.‏ ذكر من قال بهذا القول‏:‏ قال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ يعني بالاستقامة‏:‏ الطاعة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ قال‏:‏ الإسلام‏.‏ وكذا قال سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ يقول‏:‏ لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ أي‏:‏ طريقة الحق‏.‏ وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ أي لنبتليهم به‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فنزلت في كفار قريش حين مُنعوا المطر سبع سنين‏.‏

والقول الثاني‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ الضلالة ‏{‏لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا‏}‏ أي‏:‏ لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا، كما قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 44‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55، 56‏]‏ وهذا قول أبي مِجلز لاحق بن حُمَيد؛ فإنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ أي‏:‏ طريقة الضلالة‏.‏ رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، والكلبي، وابن كيسان‏.‏ وله اتجاه، وتيأيد بقوله‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا‏}‏ أي‏:‏ عذابا شاقا شديدًا موجعًا مؤلما‏.‏

قال ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد‏:‏ ‏{‏عَذَابًا صَعَدًا‏}‏ أي‏:‏ مشقة لا راحة معها‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ جبل في جهنم‏.‏ وعن سعيد بن جبير‏:‏ بئر فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 24‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا‏}‏

يقول تعالى آمرًا عباده أن يُوَحِّدوه في مجال عبادته، ولا يُدْعى معه أحد ولا يشرك به كما قال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ قال‏:‏ كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعِهِم، أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحدوه وحده‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ذكر علي بن الحسين‏:‏ حدثنا إسماعيل بن بنت السدي، أخبرنا رجل سماه، عن السدي، عن أبي مالك -أو أبي صالح- عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ قال‏:‏ لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام، ومسجد إيليا‏:‏ بيت المقدس‏.‏

وقال الأعمش‏:‏ قالت الجن‏:‏ يا رسول الله، ائذن لنا نشهد معك الصلوات في مسجدك‏.‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ يقول‏:‏ صلوا، لا تخالطوا الناس‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا مهران، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن محمود عن سعيد بن جبير،‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ‏}‏ قال‏:‏ قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناءون ‏[‏عنك‏]‏ ‏؟‏، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناءون عنك‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ وقال سفيان، عن خُصَيْف، عن عكرمة‏:‏ نزلت في المساجد كلها‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏.‏ نزلت في أعضاء السجود، أي‏:‏ هي لله فلا تسجدوا بها لغيره‏.‏ وذكروا عند هذا القول الحديث الصحيح، من رواية عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمرت أن أسجد على سبعة أعظم‏:‏ على الجبهة -أشار بيديه إلى أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين‏"‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ قال العوفي، عن ابن عباس يقول‏:‏ لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه؛ من الحرص، لما سمعوه يتلو القرآن، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه‏:‏ ‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ يستمعون القرآن‏.‏ هذا قول، وهو مروي عن الزبير بن العوام، رضي الله عنه‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن معمر، حدثنا أبو مسلم، عن أبي عَوَانة، عن أبي بشر،عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ قال الجن لقومهم‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ قال‏:‏ لما رأوه يصلي وأصحابه، يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده، قالوا‏:‏ عجبوا من طواعية أصحابه له، قال‏:‏ فقالوا لقومهم‏:‏ ‏{‏لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ وهذا قول ثان، وهو مروي عن سعيد بن جبير أيضا‏.‏

وقال الحسن‏:‏ لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ ويدعو الناس إلى ربهم، كادت العرب تلبد عليه جميعًا‏.‏

وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ قال‏:‏ تَلَبَّدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلا أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه‏.‏

هذا قول ثالث، وهو مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقول ابن زيد، واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا‏}‏ أي‏:‏ قال لهم الرسول- لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه، ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي‏}‏ أي‏:‏ إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه، ‏{‏وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا‏}‏ أي‏:‏ إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ، وعبد من عباد الله ليس إليّ من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عز وجل‏.‏

ثم أخبر عن نفسه أيضا أنه لا يجيره من الله أحد، أي‏:‏ لو عصيته فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه، ‏{‏وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ قال مجاهد، وقتادة، والسدي‏:‏ لا ملجأ‏.‏ وقال قتادة أيضا‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ أي‏:‏ لا نصير ولا ملجأ‏.‏ وفي رواية‏:‏ لا ولي ولا موئل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هو مستثنى من قوله‏:‏ ‏{‏لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا‏}‏ ‏{‏إِلا بَلاغًا‏}‏ ويحتمل أن يكون استثناء من قوله‏:‏ ‏{‏لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يجيرني منه ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليّ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي‏:‏ أنما أبلغكم رسالة الله، فمن يعص بعد ذلك فله جزاء على ذلك نار جهنم خالدين فيها أبدًا، أي لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا‏}‏ أي‏:‏ حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرًا وأقل عددًا، هم أم المؤمنون الموحدون لله عز وجل، أي‏:‏ بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية، وهم أقل عددًا من جنود الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 28‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس‏:‏ إنه لا علم له بوقت الساعة، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد‏؟‏ ‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا‏}‏‏؟‏ أي‏:‏ مدة طويلة‏.‏

وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه السلام، لا يؤلف تحت الأرض، كذب لا أصل له، ولم نره في شيء من الكتب‏.‏ وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها، ولما تَبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال‏:‏ يا محمد، فأخبرني عن الساعة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ما المسئول عنها بأعلم من السائل‏"‏ ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جَهوريّ فقال‏:‏ يا محمد، متى الساعة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ويحك‏.‏ إنها كائنة، فما أعددت لها‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ أما إني لم أعد لها كثير صلاة ولا صيام، ولكني أحب الله ورسوله‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فأنت مع من أحببت‏"‏‏.‏ قال أنس‏:‏ فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا محمد بن مُصفَى، حدثنا محمد بن حمير حدثني أبو بكر بن أبي مريم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا بني آدم، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده، إنما توعدون لآت‏"‏

وقد قال أبو داود في آخر ‏"‏كتاب الملاحم‏"‏‏:‏ حدثنا موسى بن سهيل، حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جُبَير، عن أبيه، عن أبي ثَعلبة الخُشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم‏"‏انفرد به أبو داود، ثم قال أبو داود‏:‏ حدثنا عمرو بن عثمان‏.‏ حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان، عن شُرَيح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم‏"‏‏.‏ قيل لسعد‏:‏ وكم نصف يوم‏؟‏ قال‏:‏ خمسمائة عام‏.‏ انفرد به أبو داود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ‏}‏ هذه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏ وهكذا قال هاهنا‏:‏ إنه يعلم الغيب والشهادة، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ‏}‏ وهذا يعم الرسول الملكي والبشري‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ أي‏:‏ يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله، ويساوقونه على ما معه من وحي الله؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏

وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ إلى من يعود‏؟‏ فقيل‏:‏ إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ قال‏:‏ أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل، ‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏ ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به‏.‏ وهكذا رواه الضحاك، والسدي، ويزيد بن أبي حبيب‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن قتادة‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ قال‏:‏ ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها‏.‏ وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏

وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ قال‏:‏ هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، وذلك حين يقول، ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم‏.‏

وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ قال‏:‏ ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم‏.‏ وفي هذا نظر‏.‏ وقال البغوي‏:‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏ليُعلَم‏"‏ بالضم، أي‏:‏ ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا‏.‏

ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزي في ‏"‏زاد المسير‏"‏ ويكون المعنى في ذلك‏:‏ أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 11‏]‏ إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا‏:‏ ‏{‏وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏‏.‏

قال الحافظ أبو بكر ‏[‏أحمد‏]‏ بن عمرو بن عبد الخالق البزار‏:‏ حدثنا محمد بن موسى القطان الواسطي، حدثنا معلى بن عبد الرحمن، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال‏:‏ اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا‏:‏ سموا هذا الرجل اسمًا تصدر الناس عنه‏.‏ فقالوا‏:‏ كاهن‏.‏ قالوا‏:‏ ليس بكاهن‏.‏ قالوا‏:‏ مجنون قالوا‏:‏ ليس بمجنون‏.‏ قالوا‏:‏ ساحر‏.‏ قالوا‏:‏ ليس بساحر‏.‏ فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فتزمل في ثيابه وتدثر فيها‏.‏ فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏"‏ ‏"‏ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏"‏‏.‏

ثم قال البزار‏:‏ معلى بن عبد الرحمن‏:‏ قد حدث عنه جماعة من أهل العلم، واحتملوا حديثه، لكن تفرد بأحاديث لا يتابع عليها‏.‏

تفسير سورة المزمل

وهي مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا‏}‏

يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل، وهو‏:‏ التغطي في الليل، وينهض إلى القيام لربه عز وجل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل، وقد كان واجبًا عليه وحده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 79‏]‏ وهاهنا بين له مقدار ما يقوم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا‏}‏ قال ابن عباس، والضحاك، والسدي‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ يعني‏:‏ يا أيها النائم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المزمل في ثيابه، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ نزلت وهو متزمل بقطيفة‏.‏ وقال شبيب بن بِشر، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ قال‏:‏ يا محمد، زُمّلتَ القرآن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نِصْفَهُ‏}‏ بدل من الليل ‏{‏أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا‏.‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل، لا حرج عليك في ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا‏}‏ أي‏:‏ اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره‏.‏ وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه، قالت عائشة‏:‏ كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها‏.‏ وفي صحيح البخاري، عن أنس‏:‏ أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ كانت مدًا، ثم قرأ ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم‏.‏

وقال ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة‏:‏ أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ كان يقطع قراءته آية آية، ‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ‏}‏ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقال لصاحب القرآن‏:‏ اقرأ وارْقَ، ورَتِّل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها‏"‏‏.‏

ورواه أبو داود، والترمذي والنسائي، من حديث سفيان الثوري، به وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏زَيِّنوا القرآن بأصواتكم‏"‏، و‏"‏ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن‏"‏، و‏"‏لقد أوتي هذا مزمار من مزامير آل داود‏"‏ يعني‏:‏ أبا موسى، فقال أبو موسى‏:‏ لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبَّرْته لك تحبيرا‏.‏

وعن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذّوه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة‏.‏ رواه البغوي‏.‏

وقال البخاري‏:‏ حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة‏:‏ سمعت أبا وائل قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن مسعود فقال‏:‏ قرأت المفصل الليلة في ركعة‏.‏ فقال‏:‏ هذّا كهذّ الشعر‏.‏ لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن‏.‏ فذكر عشرين سورة من المُفَصّل سورتين في ركعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا‏}‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ أي العمل به‏.‏

وقيل‏:‏ ثقيلٌ وقت نزوله؛ من عظمته‏.‏ كما قال زيد بن ثابت‏:‏ أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي، فكادت تُرض فَخذي‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا قتيبة، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله، هل تحس بالوحي‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أسمعُ صَلاصيل، ثم أسكتُ عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيض‏"‏، تفرد به أحمد‏.‏

وفي أول صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة‏:‏ أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف يأتيك الوحي‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عَلَيّ، فَيَفْصِمُ عني وقد وَعَيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول‏"‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد، فَيَفْصِمُ عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا هذا لفظه‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا سليمان بن داود، أخبرنا عبد الرحمن، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عائشة قالت‏:‏ إن كان ليوحَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته، فتضرب بِجرَانها‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا ابن ثور، عن مَعْمَر، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته، وضعت جرانها، فما تستطيع أن تحرك حتى يُسَرّى عنه‏.‏ وهذا مرسل‏.‏ الجران‏:‏ هو باطن العنق‏.‏

واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا‏}‏ قال أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ نشأ‏:‏ قام بالحبشة‏.‏

وقال عمر، وابن عباس، وابن الزبير‏:‏ الليل كله ناشئة‏.‏ وكذا قال مجاهد، وغير واحد،

يقال‏:‏ نشأ‏:‏ إذا قام من الليل‏.‏ وفي رواية عن مجاهد‏:‏ بعد العشاء‏.‏ وكذا قال أبو مِجْلَز، وقتادة، وسالم وأبو حازم، ومحمد بن المنكدر‏.‏

والغرض أن ناشئة الليل هي‏:‏ ساعاته وأوقاته، وكل ساعة منه تسمى ناشئة، وهي الآنات‏.‏ والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان، وأجمع على التلاوة؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا‏}‏ أي‏:‏ أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار؛ لأنه وقت انتشار الناس ولَغَط الأصوات وأوقات المعاش‏.‏

‏[‏وقد‏]‏ قال الحافظ أبو يعلى الموصلي‏:‏ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش، أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية‏:‏ ‏"‏إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا‏"‏ فقال له رجل‏:‏ إنما نقرؤها ‏{‏وَأَقْوَمُ قِيلا‏}‏ فقال له‏:‏ إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد‏.‏

ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا‏}‏ قال ابن عباس، وعكرمة، وعطاء بن أبي مسلم‏:‏ الفراغ والنوم‏.‏

وقال أبو العالية، ومجاهد، وابن مالك، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وسفيان الثوري‏:‏ فراغًا طويلا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ فراغا وبغية ومنقلبا‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏سَبْحًا طَوِيلا‏}‏ تطوعا كثيرًا‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله‏:‏ ‏{‏‏[‏إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ‏]‏ سَبْحًا طَوِيلا‏}‏ قال‏:‏ لحوائجك، فَأفْرغ لدينك الليل‏.‏ قال‏:‏ وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله من على العباد فخففها ووضعها، وقرأ‏:‏ ‏{‏قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا‏}‏ إلى آخر الآية، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏الليل نصفة أو ثلثه‏.‏ ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته‏]‏ فقال‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ وهذا الذي قاله كما قاله‏.‏

والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال‏:‏ حدثنا يحيى، حدثنا سعيد ابن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعيد بن هشام‏:‏ أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارًا له بها ويجعله في الكُرَاع والسلاح، ثم يجاهد الروم حتى يموت‏.‏ فلقي رهطًا من قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏أليس لكم فيّ أسوة‏؟‏‏"‏ فنهاهم عن ذلك، فأشهدهم على رَجعتها، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال‏:‏ ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ائت عائشة فاسألها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك‏.‏ قال‏:‏ فأتيت على حكيم بن أفلحَ فاستلحقتُه إليها، فقال‏:‏ ما أنا بقاربها؛ إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا، فأبت فيهما إلا مُضِيًا‏.‏ فأقسمتُ عليه، فجاء معي، فدخلنا عليها فقالت‏:‏ حكيم‏؟‏ وعرفته، قال‏:‏ نعم‏.‏ قالت‏:‏ من هذا معك‏؟‏ قال‏:‏ سعيد بن هشام‏.‏ قالت‏:‏ من هشام‏؟‏ قال‏:‏ ابن عامر‏.‏ قال‏:‏ فترحمت عليه وقالت‏:‏ نعم المرء كان عامر‏.‏ قلت‏:‏ يا أم المؤمنين، أنبئينى عن خلق رسول صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت‏:‏ ألست تقرأ القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ بلى قالت‏:‏ فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن‏.‏ فَهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت‏:‏ يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ألست تقرأ هذه السورة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏ قالت‏:‏ فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة‏.‏ فهممت أن أقوم، ثم بدا لي وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت‏:‏ يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالت‏:‏ كنا نعد له سِواكه وطَهُوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ‏[‏ويستغفر ثم ينهض وما يسلم‏.‏ ثم يصلي التاسعة فيقعد فيحمد ربه ويذكره ويدعو‏]‏ ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم‏.‏ فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني‏.‏ فلما أسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه اللحم، أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك تسع يا بني‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا شَغَله عن قيام الليل نوم أو وَجَع أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا قام ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرًا كاملا غير رمضان‏.‏

فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها، فقال‏:‏ صدقت، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة‏.‏

هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه‏.‏ وقد أخرجه مسلم في صحيحه، من حديث قتادة، بنحوه‏.‏

طريق أخرى عن عائشة في هذا المعنى‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا زيد بن الحُبَاب -وحدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْران قالا جميعا، واللفظ لابن وكيع‏:‏ عن موسى بن عُبَيدة، حدثني محمد بن طَحْلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة قالت‏:‏ كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يُصَلي عليه من الليل، فتسامع الناس به فاجتمعوا، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل- فقال‏:‏ ‏"‏أيها الناس، اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يَمَلّ من الثواب حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما ديمَ عليه‏"‏‏.‏ ونزل القرآن‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه، فرحمهم فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف‏.‏ والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة، وهذا السياق قد يُوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية‏.‏ وقوله في هذا السياق‏:‏ إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر -غريب؛ فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مِسْعَر، عن سِماك الحنفي، سمعت ابن عباس يقول‏:‏ أول ما نزل‏:‏ أول المزمل، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة‏.‏ وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب، عن أبي أسامة، به‏.‏

وقال الثوري ومحمد بن بشر العَبدي، كلاهما عن مسعر، عن سماك، عن ابن عباس‏:‏ كان بينهما سنة‏.‏ وروى ابن جرير، عن أبي كريب، عن وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن سفيان، عن قيس بن وهب، عن أبي عبد الرحمن قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسُوقُهم، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ قال‏:‏ فاستراح الناس‏.‏ وكذا قال الحسن البصري‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ‏[‏حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عُبَيد الله بن عمر القواريري، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبي‏]‏ عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام قال‏:‏ فقلت -يعني لعائشة-‏:‏ أخبرينا عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالت‏:‏ ألست تقرأ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ بلى‏.‏ قالت‏:‏ فإنها كانت قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى انتفخت أقدامهم، وحُبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا، ثم نزل‏.‏

وقال مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا‏}‏ قاموا حولا أو حولين، حتى انتفخت سوقُهم

وأقدامهم فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثنا ابن حُميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر، عن سعيد -هو ابن جبير- قال‏:‏ لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ قال‏:‏ مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل، كما أمره، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله عليه بعد عشر سنين‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن رافع، عن يعقوب القمي به‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا ‏[‏أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا‏}‏ فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا‏]‏ فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف الله عنهم ورحمهم، فأنزل بعد هذا‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ فوسع الله -وله الحمد- ولم يضيق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا‏}‏ أي‏:‏ أكثر من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك، وما تحتاج إليه من أمور دنياك، كما قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏7‏]‏ أي‏:‏ إذا فرغت من مهامك فانصب في طاعته وعبَادَته، لتكون فارغ البال‏.‏ قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه‏.‏

وقال ابن عباس ومجاهد، وأبو صالح، وعطية، والضحاك، والسدي‏:‏ ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا‏}‏ أي‏:‏ أخلص له العبادة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ اجتهد وبتّل إليه نفسك‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ يقال للعابد‏:‏ متبتل، ومنه الحديث المروي‏:‏ أنه نهى عن التَّبتُّل، يعني‏:‏ الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا‏}‏ أي‏:‏ هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب لا إله إلا هو، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل، ‏{‏فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا‏}‏ كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏123‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ وآيات كثيرة في هذا المعنى، فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله، وتخصيصه بالتوكل عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 18‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا‏}‏

يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرًا جميلا وهو الذي لا عتاب معه‏.‏ ثم قال له متوعدًا لكفار قومه ومتهددًا -وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء-‏:‏ ‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ‏}‏ أي‏:‏ دعني والمكذبين المترفين أصحابَ الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم، ‏{‏وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ رويدا، كما قال‏:‏ ‏{‏نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 24‏]‏؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا‏}‏ وهي‏:‏ القيود‏.‏ قاله ابن عباس، وعكرمة، وطاوس، ومحمد بن كعب، وعبد الله بن بريدة، وأبو عمران الجوني، وأبو مِجلَز، والضحاك، وحماد بن أبي سلمان، وقتادة والسدي، وابن المبارك والثوري، وغير واحد، ‏{‏وَجَحِيمًا‏}‏ وهي السعير المضطرمة‏.‏ ‏{‏وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج‏.‏

‏{‏وَعَذَابًا أَلِيمًا يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ‏}‏ أي‏:‏ تزلزل، ‏{‏وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا‏}‏ أي‏:‏ تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء، ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب، حتى تصير الأرض قاعًا صفصفا، لا ترى فيها عوجًا، أي‏:‏ واديا، ولا أمتا، أي‏:‏ رابية، ومعناه‏:‏ لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع‏.‏

ثم قال مخاطبًا لكفار قريش، والمراد سائر الناس‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بأعمالكم، ‏{‏كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، والثوري‏:‏ ‏{‏أَخْذًا وَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ شديدا، أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول، فيصيبكم ما أصاب فرعون، حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 25‏]‏ وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران‏.‏ ويُروَى عن ابن عباس ومجاهد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ يحتمل أن يكون ‏{‏يَوْمًا‏}‏ معمولا لتتقون، كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏"‏فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به‏"‏‏؟‏ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم، فعلى الأول‏:‏ كيف يحصلُ لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم‏؟‏ وعلى الثاني‏:‏ كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه‏؟‏ وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى، والله أعلم‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ أي‏:‏ من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله لآدم‏:‏ ابعث بعث النار‏.‏ فيقول مِن كم‏؟‏ فيقول‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة‏.‏

قال الطبراني‏:‏ حدثنا يحيى بن أيوب العلاف، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏ذلك يوم القيامة، وذلك يوم يقول الله لآدم‏:‏ قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار‏.‏ قال‏:‏ من كم يا رب‏؟‏ قال‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، وينجو واحد‏"‏‏.‏ فاشتد ذلك على المسلمين، وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم‏:‏ ‏"‏إن بني آدم كثير، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنه لا يموت منهم رجل حتى يرثه لصلبه ألف رجل‏.‏ ففيهم وفي أشباههم جنة لكم‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب، وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ‏}‏ قال الحسن، وقتادة‏:‏ أي بسببه من شدته وهوله‏.‏ ومنهم من يعيد الضمير على الله عز وجل‏.‏ وروي عن ابن عباس ومجاهد، وليس بقوي؛ لأنه لم يجر له ذكر هاهنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعًا لا محالة، وكائنا لا محيد عنه‏.‏